فصل: تفسير الآية رقم (58):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (58):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} [58].
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي: بقول أو فعل: {بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} أي: بغير جناية يستحقون بها الأذية: {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} أي: ظاهراً بيناً.
قال الزمخشري: أطلق إيذاء الله ورسوله، وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات؛ لأن أذى الله ورسوله لا يكون إلا غير حق أبداً، وأما أذى المؤمنين والمؤمنات، فمنه ومنه.
تنبيه:
في الإكليل: في هذه الآية تحريم أذى المسلم، إلا بوجه شرعي، كالمعاقبة على ذنب، ويدخل في الآية كل ما حرم للإيذاء، كالبيع على بيع غيره، والسوم على سومه، والخطبة على خطبته، وقد نص الشافعي على تحريم أكل الإنسان مما يلي غيره، إذا اشتمل على إيذاء. وأخرج ابن أبي حاتم من حديث عائشة مرفوعاً «أربى الربا عند الله، استحلال عرض امرئ مسلم» ثم قرأ هذه الآية. وأخرج عن قتادة في هذه الآية: إياكم وأذى المؤمن، فإن الله يحوطه ويغضب له. وقد زعموا أن عُمَر بن الخطاب قرأها ذات يوم، فأفزعه ذلك، حتى ذهب إلى أُبي بن كعب، فدخل عليه فقال: يا أبا المنذر! إني قرأت آية من كتاب الله فوقعت مني كل موقع: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية. والله! إني لأعاقبهم وأضربهم. فقال له: إنك لست منهم. إنما أنت مؤدب، إنما أنت معلم. انتهى.
قال الزمخشري: وعن الفضيل: لا يحل لك أن تؤذي كلباً أو خنزيراً بغير حق، فكيف؟ وكان ابن عون لا يكرى الحوانيت إلا من أهل الذمة، لما فيه من الروعة عند كر الحول. فرحمه الله ورضي عنه.
ولما بين تعالى سوء حال المؤذين، زجراً لهم عن الإيذاء، أمر النبي عليه الصلاة السلام بأن يأمر بعض المتأذين منهم، بما يدفع إيذائهم في الجملة من الستر والتميز، عن مواقع الإيذاء، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (59):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [59].
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} جمع جلباب، كسرداب، وهو الرداء فوق الخمار، تتغطى به المرأة، وهو معنى قول بعضهم: جلبابها ملاءتها تشتمل بها. وقيل هو الخمار. قالت جنوب أخت عَمْرو ذي الكلب ترثيه:
تَمْشِي النُّسُوْرُ إِلَيْهِ وَهْيَ لَاْهِيَةٌ ** مَشْيَ الْعَذَارَىْ، عَلَيْهِنَّ الْجَلَاْلِيْبُ

وقال آخر يصف الشيب:
حَتَّى اكْتَسَى الرَّاْسُ قِنَاْعاً أَشْهَبَا ** أَكْرَهَ جِلْبَاْبٍ لِمَنْ تَجَلْبَبَا

وقال الزمخشري: الجلباب ثوب واسع، أوسع من الخمار، ودون الرداء، تلويه المرأة على رأسها ويبقى منه ما ترسله على صدرها، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل، ثم قال: ومعنى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال إذا زل عن وجه المرأة: أدني ثوبك على وجهك. وذلك أن النساء كن في أول الإسلام على هجيراهن في الجاهلية متبذلات، تبرز المرأة في درع وخمار، لا فصل بين الحرة والأمة. وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرضون للإماء إذا خرجن بالليل، إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيظان، وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة، يقولون حسبناها أمة، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء، بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه ليحتشمن ويهبن، فلا يطمع فيهن طامع، وذلك قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} أي: أولى وأجدر بأن يعرفن أنهن حرائر، فلا يتعرض لهن ولا يلقين ما يكرهن. ثم قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى من، في: {مِنْ جَلَابِيْبِهِنَّ} قلت: هو للتبعيض، إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين:
أحدهما- أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب. والمراد أن لا تكون الحرة متبذلة في درع وخمار كالأمة والماهنة، ولها جلبابان فصاعداً في بيتها.
والثاني- أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها، لتتقنع حتى تتميز من الأمة. انتهى.
ومن الآثار في الآية، ما رواه الطبري عن ابن عباس قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة، أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدةً. وأخرج ابن أبي حاتم عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان، من السكينة. وعليهن أكيسة سود يلبسنها. وأخرج عن يونس بن يزيد أنه سأل الزهري: هل على الوليدة خمار، متزوجة أو غير متزوجة؟ قال: عليها الخمار إن كانت متزوجة، وتنهى عن الجلباب؛ لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر المحصنات.
تنبيهات:
الأول- قال ابن كثير: روي عن سفيان الثوري أنه قال: لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة، وإنما نهي عن ذلك لخوف الفتنة، لا لحرمتهن، واستدل بقوله تعالى: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ}. انتهى.
الثاني- قال السبكي في طبقاته: استنبط أحمد بن عيسى، من فقهاء الشافعية، من هذه الآية أن ما يفعله العلماء والسادات، من تغيير لباسهم وعمائمهم، أمر حسن. وإن لم يفعله السلف؛ لأن فيه تمييزاً لهم حتى يُعرفوا، فيعمل بأقوالهم. انتهى. الثالث- قال الشهاب: قوله تعالى: {يُدْنِينَ} يحتمل أن يكون مقول القول. وهو خبر بمعنى الأمر، أو جواب الأمر، على حد: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم: 31]، انتهى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً} أي: لما سلف منهن من التفريط: {رَّحِيماً} أي: بعباده، حيث يراعي مصالحهم حتى الجزئيات منها.

.تفسير الآيات (60- 61):

القول في تأويل قوله تعالى: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [60- 61].
{لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ} أي: عن نفاقهم: {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي: ضعف إيمان، عن مراودة النساء بالفجور: {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} أي: بأخبار السوء اللاتي يفترونها وينشرونها، كمجيء عدو وانهزام سرية، وهكذا مما يكسرون به قلوب المؤمنين، وأصله التحريك، من الرجفة، وهي الزلزلة، يسمى به الخبر المفترى، لكونه خبراً متزلزلاً غير ثابت، أو لاضطراب قلوب المؤمنين به: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} أي: لنسلطنك عليهم بما يضطرهم إلى الجلاء: {ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا} أي: في المدينة من قوة بأسك عليهم: {إِلَّا قَلِيلاً} أي: زمناً قليلاً ريثما يستعدون للرحلة: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا} أي: مبغضين لله وللخلق، لا يستريحون بالخروج، للصوق اللعنة بهم أينما وجدوا {أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} أي: أسروا وبولغ في قتلهم لذلتهم وقلتهم، ثم أشار تعالى إلى أن ذلك ليس ببدع، بقوله:

.تفسير الآية رقم (62):

القول في تأويل قوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [62].
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ} أي: في المفترين والمؤذين الذين مضوا، إذا تمرّدوا على نفاقهم وكفرهم ولم يرجعوا، أن يسلّط عليهم أهل الإيمان فيقهرونهم {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} أي: لأنه لا يبدلها، أو لا يقدر أحد أن يبدلها.
تنبيهات:
الأول- قال الشهاب: إما أن يراد بالمنافقين والمراض والمرجفين، قوم مخصوصون، ويكون العطف لتغاير الصفات مع اتحاد الذات، على حدّ: إلى الملك القرم وابن الهمام. أو يراد بهم أقوام مختلفون في الذوات والصفات.
فعلى الأول، تكون الأوصاف الثلاثة للمنافقين، وهو الموافق لما عرف من وصفهم بالذين في قلوبهم مرض، كما مرّ في البقرة. والأراجيف بالمدينة أكثرها منهم، لكنه لا يوافق ما ذيل به من الوعيد بالإجلاء والقتل، فإنه لم يقع للمنافقين.
وعلى الثاني، هم المنافقون وقوم ضعاف الدين، كأهل الفجور، والمرجفون اليهود الذين كانوا مجاورين لهم بالمدينة، وقد وقع القتال والإجلاء لمن لم ينته منهم، وهم اليهود. انتهى.
الثاني- ذكروا أن معنى قوله تعالى: {أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} أنهم إذا خرجوا لا ينفكون عن المذلة، ولا يجدون ملجأ. بل أينما يكونون، يطلبون ويؤخذون ويقتلون، وعليه فالجملة خبرية. وانظر هل من مانع أن تكون الجملة دعائية كقوله: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98] و[الفتح: 6]، وقوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1]، كأنه قيل: أخذهم الله. أي: أهلكهم وقتلهم أبلغ قتل وأشده. ولم أر أحداً تعرض له، وقد أفاد ابن عطية، أن كل ما كان بلفظ الدعاء من الله تعالى، فإنما هو بمعنى إيجاب الشيء؛ لأن الله لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته، أي: لاستحالة حقيقة الدعاء وهو الطلب من الغير.
الثالث- في الإكليل: في الآية تحريم الأذى بالإرجاف، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} هم قوم كانوا يجلسون على الطريق، يكابرون المرأة مكابرة. فنزلت فيهم الآية إلى قوله: {أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} قال: هذا حكم في القرآن، ليس يعمل به، لو أن رجلا أو أكثر من ذلك اقتصوا أثر امرأة فغلبوها على نفسها ففجروا بها، كان الحكم فيهم غير الجلد والرجم، أن يؤخذوا فتضرب أعناقهم. انتهى.
وهذا وقوف مع وجه تحتمله الآية، كما قدمنا، على أن للحاكم أن يفعل ذلك، إذا رأى في ذلك مصلحة ودرء مفسدة، على قاعدة رعاية المصالح التي هي أم الباب، كما بسط ذلك النجم الطوفي في رسالته وأيدناه بما علقناه عليها.
الرابع- كتب الناصر في الانتصاف على قول الكشاف في قوله: {إلاَّ قَلِيلاً} أي: زمناً قليلاً ريثما يرتحلون ويتلقطون أنفسهم وعيالاتهم، ما مثاله: فيها إشارة إلى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعي، يمهل ريثما ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان حتى يتحصل له منزل آخر، على حسب الاجتهاد. انتهى.

.تفسير الآية رقم (63):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [63].
{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} أي: يسألونك عن وقت قيامها. وكان المشركون في مكة يسألونه صلّى الله عليه وسلم، عنها استعجالاً على سبيل الهزء، وكذلك اليهود في المدينة أو غيرهم؛ لأن هذه السورة مدنية، وقد أرشده تعالى أن يرد علمها إليه لاستئثاره تعالى به، فلم يطلع نبياً ولا ملكاً، وأن يبين لهم أنها قريبة الوقوع، تهديداً للمستعجلين وإسكاتاً للممتحنين.
لطيفة:
تذكير قريباً باعتبار موصوفه الخبر، أي: شيئاً قريباً، أو لأن الساعة في معنى اليوم أو الوقت، أو أن قريباً ظرف منصوب على الظرفية، فإن قريباً وبعيداً: يكونان ظرفين، فليس صفة مشتقة، حتى تجري عليه أحكام التذكير والتأنيث.
قال أبو السعود: والإظهار في حيز الإضمار، للتهويل وزيادة التقرير، وتأكيد استقلال الجملة، يعني أن قوله: {وَمَا يُدْرِيكَ} خطاب مستقل له عليه السلام، غير داخل تحت الأمر، مسوق لبيان أنها مع كونها غير معلومة للخلق، مرجوة المجيء عن قريب.

.تفسير الآيات (64- 66):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [64- 66].
{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ} أي: أبعدهم من رحمته: {وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً} أي: ناراً شديدة الاتقاد في الآخرة: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً} أي: حافظا يتولاهم: {وَلَا نَصِيراً} أي: يخلصهم: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} أي: تصرف من جهة إلى جهة، تشبيه بقطعة لحم في قدرٍ تغلي، ترامى بها الغليان من جهة إلى جهة. أو المعنى: من حال إلى حال، فالمراد تغيير هيئاتها من سواد وتقديد وغيره.
قال الزمخشري: وخصت الوجوه بالذكر، لأن الوجه أكرم موضع على الْإِنْسَاْن من جسده، ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة، وناصب الظرف: يقولون، أو اذكر، أو يجدون، أو خالدين، أو نصيراً: {يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} أي: فكنا ننجو من هذا العذاب.

.تفسير الآيات (67- 69):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [67- 69].
{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا} وهم رؤساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم حتى قلدوهم فيه: {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} أي: بما زينوه لنا. قال الزمخشري: وزيادة الألف لإطلاق الصوت جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر، وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع، وأن ما بعده مستأنف: {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} أي: مثلي العذاب الذي آتيتناه؛ لأنهم ضلوا وأضلوا: {وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} أي: لعناً هو أشد اللعن وأعظمه.
وقرئ: {كَثِيْراً}، تكثيراً لأعداد اللعائن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً} لما بين تعالى وعيد من يؤذي نبيه صلّى الله عليه وسلم، من استحقاقه اللعنة في الدارين، تعريضاً بمن صدر منهم شيء من الأذى في قصة زيد وزينب، التي سيقت السورة لأجلها، ختمها أيضاً بالوصية بالتباعد عن التشبه بقوم صدر منهم إيذاء لموسى عليه السلام، بتنقيصه تارة، وقلة الأدب معه طوراً، ونسبته إلى ما ينافي الرسالة آونة، كما يمر كثير من ذلك بقارئي توراتهم، مما ينبئ عن عدم إيفائهم رسالته ونبوته حقها، من التعظيم له والصلاة عليه والتسليم لأمره وقضيته، فكانت النتيجة أن غضب الله عليهم، ورماهم بأفانين العقوبات، ولحقتهم المخازي، وبرأ رسوله موسى عليه السلام من إفكهم، ونزه مقامه عن تنقيصهم، بأن حقق فضله، وأسمى منزلته، وآتاه الوجاهة- وهي العظمة والقرب- عنده.
وهكذا حقت كلمة اللعنة والخزي على مؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولحقهم الدمار، وشرح لنبيه صدره، ورفع له ذكره، وأعلى منزلته، وفخم وجاهته، ما تعاقبت الأدوار، ويقرب من هذه الآية، في المعنى والإشارة، قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5]، وفيهما كلتيهما تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم بتأسّيه بأخيه موسى صلوات الله وسلامه عليهما، وكثيراً ما كان يقول صلّى الله عليه وسلم في جواب جفاة الأعراب حين ما يبلغه أو يسمع ما يكره: «رحمة الله على موسى؛ لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر».
وقد روى المفسرون هاهنا آثاراً، أحسنها ما أخرجه البراز عن أنس مرفوعاً: «كان موسى رجلاً حيياً، وأنه أتى الماء ليغتسل، فوضع ثيابه على صخرة، وكان لا يكاد تبدو عورته، فقال بنو إسرائيل إن موسى آدَرُ أو به آفة، يعنون أنه لا يضع ثيابه، فاحتملت الصخرة ثيابه حتى صارت بحذاء بني إسرائيل، فنظروا إلى موسى كأحسن الرجال- أو كما قال-». فذلك قوله: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً} ورواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أيضاً.
قال الرازي وحديث إيذاء موسى مختلف فيه،- أي: لكثرة الروايات فيه- مع أن الإيذاء المذكور في القرآن كاف كقولهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة: 24]، وقولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55]، وقولهم: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة: 61]، إلى غير ذلك. فقال للمؤمنين: لا تكونوا أمثالهم. انتهى.
وقال ابن كثير: يحتمل أن يكون كل ما روي مراداً، وأن يكون معه غيره. انتهى، أي: لعموم المعمول المحذوف، وما بينّاه أولاً، هو الأقرب. والله أعلم.
تنبيهات:
الأول- الوجيه: لغة بمعنى السيد، كالوجه، يقال: هؤلاء وجوه البلد ووجهاؤه، أي: أشرافه، وبمعنى ذي الجاه- والجاه القدر والمنزلة، مقلوب عن وجه، فلما أخرت الواو إلى موضع العين، وصارت جَوَها، قلبت الواو ألفاً. فصارت جاهاً، وكذا في القاموس وشرحه.
الثاني- قال الزمخشري: وجيها، أي: ذا جاه ومنزلة عنده، فلذلك كان يميط عنه التهم ويدفع الأذى ويحافظ عليه لئلا يلحقه وصم ولا يوصف بنقيصة، كما يفعل الملك بمن له عنده قربة ووجاهة. وقال ابن جرير: أي: كان موسى عند الله مشفّعاً فيما يسأل، ذا وجه ومنزلة عنده، بطاعته إياه، أي: مقبولاً ومجاباً فيما يطلب لقومه من الله تعالى، عناية منه تعالى وتفضيلاً.
الثالث- اتخذ العامة، وكثير من المتعالمين، وصف الوجاهة للأنبياء ذريعة للطلب والرغبة منهم، مما لا ينطبق على عقل ولا نقل، ولا يصدق على المعنى اللغوي بوجه ما، وقد كتب في ذلك الإمام الشيخ محمد عبده فُتْيا، أَبَان وجه الصواب فيما تشابه من هذه المسألة، وذلك أنه سئل، رحمه الله، عمن يتوسل بالأنبياء، والأولياء، معتقداً أن النبي أو الولي يستميل إرادة الله تعالى عما هي عليه، كما هو المعروف للناس من معنى الشفاعة والجاه عند الحاكم، وأن التوسل بهم إلى الله تعالى كالتوسل بأكابر الناس إلى الحكام.
فقال امرؤ: إن هذه مخل بالعقيدة، وإن قياس التوسل إلى الله تعالى على التوسل بالحكام محال، وإن عقيدة التوحيد أن لا فاعل ولا نافع ولا ضار إلا الله تعالى، وإنه لا يدعى معه أحد سواه، كما قال تعالى: {فَلا تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن: 18]، وإن النبي صلّى الله عليه وسلم، وإن كان أعظم منزلة عند الله تعالى من جميع البشر، وأعظم الناس جاهاً ومحبة، وأقربهم إليه، ليس له من الأمر شيء، ولا يملك للناس ضراً ولا نفعاً ولا رشداً ولا غيره، كما في نص القرآن.
وإنما هو مبلغ عن الله تعالى، ولا يتوسل إليه تعالى إلا بالعمل بما جاء على لسانه صلّى الله عليه وسلم، واتباع ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون من هديه وسنته، وإنه لا سبب لجلب المنافع ودفع المضارّ إلا ما هدى الله الناس إليه، ولا معنى للتوسل بنبي أو ولي إلا باتباعه والاقتداء به، يرشدنا إلى هذا كثير من الآيات الواردة في القرآن العظيم، كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عِمْرَان: 31]، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153]، إلى غير ذلك من الآيات. وإن كان هو الصواب فأرجو إقراري عليه كتابة، لأدافع بذلك من أساء بي الظن.
فأجاب رحمه الله، بعد البسملة والحوقلة: اعتقادك هذا هو الاعتقاد الصحيح، ولا يشوبه شوب من الخطأ، وهو ما يجب على كل مسلم يؤمن بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم أن يعتقده، فإن الأساس الذي ينبت عليه رسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم هو هذا المعنى من التوحيد، كما قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1- 2] و{الصَّمَدُ} هو الذي يقصد في الحاجات، ويتوجه إليه المربون في معونتهم على ما يطلبون، وإمدادهم بالقوة فيما تضعف عنه قواهم، والإتيان بالخبر على هذه الصورة يفيد الحصر، كما هو معروف عند أهل اللغة، فلا صمد إلا هو.
وقد أرشدنا إلى وجوب القصد إليه وحده بأصرح عبارة في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وقد قال الشيخ محي الدين بن العربي، شيخ الصوفية، في صفحة 226 من الجزء الرابع من فتوحاته عند الكلام على هذه الآية: إن الله تعالى لم يترك لعبده حجة عليه. بل لله الحجة البالغة، فلا يتوسل إليه بغيره، فإن التوسل إنما هو طلب القرب منه، وقد أخبرنا الله أنه قريب، وخبره صدق. انتهى ملخصاً.
على أن الذين يزعمون جواز شيء مما عليه العامة اليوم في هذا الشأن، إنما يتكلمون فيه بالمبهمات، ويسلكون طرقاً من التأويل لا تنطبق على ما في نفوس الناس. ويفسرون الجاه والواسطة بما لا أثر له في مخيلات المعتقدين. فأي حالة تدعوهم إلى ذلك؟ وبين أيديهم القرون الثلاثة الأولى، ولم يكن فيها شيء من هذا التوسل، ولا ما يشبهه بوجه من الوجوه، وكتب السنة والسير بين أيدينا شاهدة بذلك، فكل ما حدث بعد ذلك فأقل أوصافه أنه بدعة في الدين وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وأسوأ البدع ما كان فيه شبهة الإشراك بالله تعالى وسوء الظن به، كهذه البدع التي نحن بصدد الكلام فيها، وكأن هؤلاء الزاعمين يظنون أن في ذلك تعظيماً لقدر النبي صلّى الله عليه وسلم، أو الأنبياء أو الأولياء، مع أن أفضل التعظيم للأنبياء هو الوقوف عندما جاءوا به، واتقاء الزيادة عليهم فيما شرعوه بإذن ربهم. وتعظيم الأولياء يكون باختيار ما اختاروه لأنفسهم. وظن هؤلاء الزاعمين أن الأنبياء والأولياء يفرحون بإطرائهم، وتنظيم المدائح وعزوها إليهم، وتفخيم الألفاظ عند ذكرهم، واختراع شؤون لهم مع الله، لم ترد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا رضيها السلف الصالح.
هذا الظن بالأنبياء والأولياء هو أسوأ الظن؛ لأنهم شبهوهم في ذلك بالجبارين من أهل الدنيا، الذين غشيت أبصارهم ظلمات الجهل قبل لقاء الموت، وليس يخطر بالبال أن جباراً لقي الموت وانكشف له الغطاء عن أمر ربه فيه، يرضى أن يفخمه الناس بما لم يشرعه الله. فكيف بالأنبياء والصديقين؟
إن لفظ الجاه الذي يضيفونه إلى الأنبياء والأولياء عند التوسل، مفهومه العرفي هو السلطة. وإن شئت قلت نفاذ الكلمة عند من يستعمل عليه أو لديه، فيقال فلان اغتصب مال فلان بجاهه، ويقال فلان خلص فلاناً من عقوبة الذنب بجاهه، لدى الأمير أو الوزير مثلاً، فزعم زاعم أن لفلان جاهاً عند الله بهذا المعنى، إشراك جلي لا خفي، وقلما يخطر ببال أحد من المتوسلين معنى اللفظ اللغوي، وهو المنزلة والقدر، على أنه لا معنى للتوسل بالقدر والمنزلة نفسها؛ لأنها ليست شيئاً ينفع. وإنما يكون لذلك معنى، لو أوّلت بصفة من صفات الله، كالاجتباء والاصطفاء، ولا علاقة لها بالدعاء ولا يمكن لمتوسل أن يقصدها في دعائه، وإن كان الآلوسي بنى تجويز التوسل بجاه النبي خاصة على ذلك التأويل. وما حمله على هذا إلا خوفه من ألسنة العامة وسباب الجهال، وهو مما لا قيمة له عند العارفين. فالتوسل بلفظ الجاه مبتدع بعد القرون الثلاثة، وفيه شبهة الشرك والعياذ بالله، وشبهة العدول عما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم، فلم الإصرار على تحسين هذه البدعة؟
يقول بعض الناس: إن لنا على ذلك حجة لا أبلغ منها. وهي ما رواه الترمذي بسنده إلى عثمان بن حنيف رضي الله عنه قال: إن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافني. فقال: «إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك». قال: فادعه. قال فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء، ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة. يا محمد! إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي. اللهم فشفعه في». قال الترمذي وهو حديث حسن صحيح غريب.
ونقول أولاً: قد وصف الحديث بالغريب، وهو ما رواه واحد، ثم يكفي في لزوم التحرز عن الأخذ به، أن أهل القرون الثلاثة لم يقع منهم مثله، وهم أعلم منا بما يجب الأخذ به من ذلك، ولا وجه لابتعادهم عن العمل به، إلا علمهم بأن ذلك من باب طلب الاشتراك في الدعاء من الحي، كما قال عمر رضي الله عنه، في حديث الاستسقاء: إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلّى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك العباس فاسقنا، قال ذلك، رضي الله عنه، والعباس بجانبه يدعو الله تعالى، ولو كان التوسل ما يزعم هؤلاء الزاعمون، لكان عمر يستسقي ويتوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلم، ولا يقول كنا نستسقي بنبيك، وطلب الاشتراك في الدعاء مشروع حتى من الأخ لأخيه، بل ويكون من الأعلى للأدنى، كما ورد في الحديث، وليس فيه ما يخشى منه، فإن الداعي ومن يشركه في الدعاء وهو حيّ، كلاهما عبد يسأل الله تعالى، والشريك في الدعاء شريك في العبودية، لا وزير يتصرف في إرادة الأمير كما يظنون: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180].
ثم المسألة داخلة في باب العقائد، لا في باب الأعمال، ذلك أن الأمر فيها يرجع إلى هذا السؤال: هل يجوز أن نعتقد بأن واحداً سوى الله يكون واسطة بيننا وبين الله في قضاء حاجاتنا أو لا يجوز؟ أما الكتاب فصريح في أن تلك العقيدة من عقائد المشركين، وقد نعاها عليهم في قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، سورة يونس، وقد جاء في السورة التي نقرؤها كل يوم في الصلاة: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فلا استعانة إلا به، وقد صرح الكتاب بأن أحداً لا يملك للناس من الله نفعاً ولا ضراً، وهذا هو التوحيد الذي كان أساس الرسالة المصطفوية كما بيّنا.
ثم البرهان العقلي يرشد إلى أن الله تعالى في أعماله لا يقاس بالحكام، وأمثالهم في التحول عن إرادتهم، بما يتخذه أهل الجاه عندهم، لتنزّهه جل شأنه عن ذلك، ولو أراد مبتدع أن يدعو إلى هذه العقيدة، فعليه أن يقيم عليها الدليل الموصل إلى اليقين، إما بالمقدمات العقلية البرهانية أو بالأدلة السمعية المتواترة، ولا يمكنه أن يتخذ حديثاً من حديث الآحاد دليلا على العقيدة مهما قوي سنده، فإن المعروف عند الأئمة قاطبة أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [النجم: 28]، انتهى كلامه رحمه الله.
ثم راجعت اقتضاء الصراط المستقيم للإمام العلم تقي الدين ابن تيمية رضي الله عنه. فرأيته ذكر نحواً من ذلك، وعبارته: فالوسيلة التي أمر الله بابتغائها، تعم الوسيلة في عبادته وفي مسألته، فالتوسل إليه بالأعمال الصالحة التي أمر بها، وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم، ليس هو من باب الإقسام عليه بمخلوقاته، ومن هذا الباب استشفاع الناس بالنبي صلّى الله عليه وسلم يوم القيامة، فإنهم يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله، كما كانوا في الدنيا يطلبون منه أن يدعوَ لهم في الاستسقاء وغيره، وقول عمر رضي الله عنه: إنا كنا، إذا أجدبنا، توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا. معناه نتوسل بدعائه وشفاعته وسؤاله، ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته، ليس المراد به، إنا نقسم عليك به، أو ما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبه، كما يقوله بعض الناس: أسألك بجاه فلان عندك، ويقولون: إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه وأوليائه، ويروون حديثاً موضوعاً: «إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عريض» فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه، كما ذكر عمر رضي الله عنه، لفعلوا ذلك بعد موته، ولم يعدلوا عنه إلى العباس، مع علمهم أن السؤال به والإقسام به، أعظم من العباس، فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكروه، وهو مما يفعل بالأحياء دون الأموات، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم، فإن الحي يطلب منه ذلك والميت لا يطلب منه شيء، لا دعاء ولا غيره، وكذلك حديث الأعمى، فإنه طلب من النبي صلّى الله عليه وسلم أن يدعوا له ليردّ الله عليه بصره. فعلّمه النبي صلّى الله عليه وسلم دعاءً أمره فيه، أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه، فهذا يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلم شفع فيه، وأمره أن يسأل الله قبول شفاعته، وأن قوله «أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة» أي: بدعائه وشفاعته، كما قال عمر: كنا نتوسل إليك بنبينا. فلفظ: التوجه، والتوسل في الحديثين بمعنى واحد. ثم قال: يا محمد! يا رسول الله! إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها. اللهم! فشفعه في. فطلب من الله أن يشفع فيه نبيه. وقوله: يا محمد! يا نبي الله!. هذا وأمثاله نداء. يطلب به استحضار المنادى في القلب، فيخاطب المشهود بالقلب، كما يقول المصلّي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. والْإِنْسَاْن يفعل مثل هذا كثيراً، يخاطب من يتصوره في نفسه، وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب، فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به والسؤال به، فيه إجمال واشتراك، غلظ تسببه من لم يفهم مقصد الصحابة، يراد به التشبث به لكونه داعياً وشافعاً مثلاً، أو لكونه الداعي محبّباً له، مطيعاً لأمره، مقتدياً به. فيكون التسبب إما بمحبة السائل له واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته، فلا يكون التوسل، لا شيء منه ولا شيء من السائل، بل بذاته أو بمجرد الإقسام به على الله. فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه. انتهى.